فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية الأولى أنه: {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} أردفه بما يدل على كونه تعالى عالمًا بجميع المعلومات، فثبت أن رزق كل حيوان إنما يصل إليه من الله تعالى، فلو لم يكن عالمًا بجميع المعلومات لما حصلت هذه المهمات، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى:
قال الزجاج: الدابة اسم لكل حيوان، لأن الدابة اسم مأخوذ من الدبيب، وبنيت هذه اللفظة على هاء التأنيث، وأطلق على كل حيوان ذي روح ذكرًا كان أو أنثى، إلا أنه بحسب عرف العرب اختص بالفرس، والمراد بهذا اللفظ في هذه الآية الموضوع الأصلي اللغوي فيدخل فيه جميع الحيوانات، وهذا متفق عليه بين المفسرين، ولا شك أن أقسام الحيوانات وأنواعها كثيرة، وهي الأجناس التي تكون في البر والبحر والجبال، والله يحصيها دون غيره، وهو تعالى عالم بكيفية طبائعها وأعضائها وأحوالها وأغذيتها وسمومها ومساكنها، وما يوافقها وما يخالفها، فالإله المدبر لإطباق السموات والأرضين؛ وطبائع الحيوان والنبات، كيف لا يكون عالمًا بأحوالها؟ روي أن موسى عليه السلام عند نزول الوحي إليه تعلق قلبه بأحوال أهله، فأمره الله تعالى أن يضرب بعصاه على صخرة فانشقت وخرجت صخرة ثانية؛ ثم ضرب بعصاه عليها فانشقت وخرجت صخرة ثالثة، ثم ضربها بعصاه فانشقت فخرجت منها دودة كالذرة وفي فمها شيء يجري مجرى الغذاء لها، ورفع الحجاب عن سمع موسى عليه السلام فسمع الدودة تقول: سبحان من يراني، ويسمع كلامي، ويعرف مكاني، ويذكرني ولا ينساني.
المسألة الثانية:
تعلق بعضهم بأنه يجب على الله تعالى بعض الأشياء بهذه الآية وقال: إن كلمة (على) للوجوب، وهذا يدل على أن إيصال الرزق إلى الدابة واجب على الله.
وجوابه: أنه واجب بحسب الوعد والفضل والإحسان.
المسألة الثالثة:
تعلق أصحابنا بهذه الآية في إثبات أن الرزق قد يكون حرامًا، قالوا لأنه ثبت أن إيصال الرزق إلى كل حيوان واجب على الله تعالى بحسب الوعد وبحسب الاستحقاق، والله تعالى لا يحل بالواجب، ثم قد نرى إنسانًا لا يأكل من الحلال طول عمره، فلو لم يكن الحرام رزقًا لكان الله تعالى ما أوصل رزقه إليه، فيكون تعالى قد أخل بالواجب وذلك محال، فعلمنا أن الحرام قد يكون رزقًا، وأما قوله: {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} فالمستقر هو مكانه من الأرض والمستودع حيث كان مودعًا قبل الاستقرار في صلب أو رحم أو بيضة، وقال الفراء: مستقرها حيث تأوي إليه ليلًا أو نهارًا، ومستودعها موضعها الذي تموت فيه، وقد مضى استقصاء تفسير المستقر والمستودع في سورة الأنعام، ثم قال: {كُلٌّ في كِتَابٍ مُّبِينٍ} قال الزجاج: المعنى أن ذلك ثابت في علم الله تعالى، ومنهم من قال: في اللوح المحفوظ، وقد ذكرنا ذلك في قوله: {وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ في كتاب مُّبِينٍ} [الأنعام: 59]. اهـ.

.قال الماوردي:

{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا}
قوله عز وجل: {وَيَعْلَمُ مُستَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدعَهَا}
فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: مستقرها حيث تأوي، ومستودعها حيث تموت.
الثاني: مستقرها في الرحم، ومستودعها في الصلب، قاله سعيد بن جبير.
الثالث: مستقرها في الدنيا، ومستودعها في الآخرة.
ويحتمل رابعًا: أن مستقرها في الآخرة من جنة أو نار، ومستودعها في القلب من كفر أو إيمان. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {وما من دابة في الأرض}
قال أبو عبيدة: {مِنْ} من حروف الزوائد، والمعنى: وما دابة، والدابة: اسم لكل حيوان يدب.
وقوله: {إِلا على الله رزقها} قال العلماء: فضلًا منه، لا وجوبًا عليه.
و{على} هاهنا بمعنى {مِنْ} وقد ذكرنا المستقر والمستودع في سورة [الأنعام: 67].
قوله تعالى: {كل في كتاب} أي: ذلك عند الله في اللوح المحفوظ، هذا قول المفسرين.
وقال الزجاج: المعنى: ذلك ثابت في عِلم الله عز وجل. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا}
{ما} نفي و{مِنْ} زائدة و: {دَابَّةٍ} في موضع رفع؛ التقدير: وما دابة.
{إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} {على} بمعنى {مِن}، أي من الله رزقها؛ يدلّ عليه قول مجاهد: كل ما جاءها من رزق فمن الله.
وقيل: {على الله} أي فضلًا لا وجوبًا.
وقيل: وعدًا منه حقًا.
وقد تقدّم بيان هذا المعنى في النساء وأنه سبحانه لا يجب عليه شيء.
{رِزْقُهَا} رفع بالابتداء، وعند الكوفيين بالصفة؛ وظاهر الآية العموم ومعناها الخصوص؛ لأن كثيرًا من الدواب هلك قبل أن يُرزق.
وقيل: هي عامة في كل دابة: وكل دابة لم ترزق رزقًا تعيش به فقد رُزقت رُوحها؛ ووجه النظم بما قبلُ: أنه سبحانه أخبر برزق الجميع، وأنه لا يَغفُل عن تربيته، فكيف تَخفى عليه أحوالكم يا معشر الكفار وهو يرزقكم؟ا والدّابة كل حيوان يَدِبُّ.
والرزق حقيقته ما يتغذّى به الحيّ، ويكون فيه بقاء رُوحه ونماء جسده.
ولا يجوز أن يكون الرزق بمعنى الملك؛ لأن البهائم تُرزق وليس يصح وصفها بأنها مالكة لعَلَفها؛ وهكذا الأطفال تُرزق اللّبن ولا يقال: إن اللّبن الذي في الثّدي ملك للطفل.
وقال تعالى: {وَفِي السماء رِزْقُكُمْ} [الذاريات: 22] وليس لنا في السماء ملك؛ ولأن الرزق لو كان ملكًا لكان إذا أكل الإنسان من ملك غيره أن يكون قد أكل من رزق غيره، وذلك محال؛ لأن العبد لا يأكل إلا رزق نفسه.
وقد تقدّم في البقرة هذا المعنى والحمد لله.
وقيل لبعضهم: من أين تأكل؟ فقال: الذي خلق الرّحى يأتيها بالطّحين، والذي شدق الأشداق هو خالق الأرزاق.
وقيل لأبي أسيد: من أين تأكل؟ فقال: سبحان الله والله أكبر إن الله يرزق الكلب أفلا يرزق أبا أسيد.
وقيل لحاتم الأصم: من أين تأكل؟ فقال: من عند الله؛ فقيل له: الله ينزل لك دنانير ودراهم من السماء؟ فقال: كأن ما له إلا السماء يا هذا الأرضُ له والسماءُ له؛ فإن لم يؤتني رزقي من السماء ساقه لي من الأرض؛ وأنشد:
وكيف أخافُ الفقرَ والَّلهُ رازقي ** ورازق هذا الخلق في العُسْرِ واليُسْرِ

تَكَفَّلَ بالأرزاقِ للخلقِ كُلِّهمْ ** وللضَّبِّ في البيداءِ والحُوتِ في البحرِ

وذكر التِّرمذيّ الحكيم في نوادر الأصول بإسناده عن زيد بن أسلم: أن الأشعريين أبا موسى وأبا مالك وأبا عامر في نفر منهم، لما هاجروا وقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك وقد أَرْمَلوا من الزاد، فأرسلوا رجلًا منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله، فلما انتهى إلى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعه يقرأ هذه الآية: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} فقال الرجل: ما الأشعريّون بأهون الدواب على الله؛ فرجع ولم يدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال لأصحابه: «أبشروا أتاكم الغوث»، ولا يظنون إلا أنه قد كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوعده؛ فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجلان يحملان قصعة بينهما مملوءة خبزًا ولحمًا فأكلوا منها ما شاؤوا، ثم قال بعضهم لبعض: لو أنا رددنا هذا الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقضي به حاجته؛ فقالوا للرجلين: اذهبا بهذا الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنا قد قضينا منه حاجتنا، ثم إنهم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله ما رأينا طعامًا أكثر ولا أطيب من طعام أرسلت به؛ قال: «ما أرسلت إليكم طعامًا» فأخبروه أنهم أرسلوا صاحبهم، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره ما صنع، وما قال لهم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذلك شيء رزقكموه الله».
قوله تعالى: {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا} أي من الأرض حيث تأوي إليه.
{وَمُسْتَوْدَعَهَا} أي الموضع الذي تموت فيه فتدفن؛ قاله مِقْسَم عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وقال الربيع بن أنس: {مُستَقَرَّهَا} أيام حياتها.
{وَمُسْتَوْدَعَهَا} حيث تموت وحيث تبعث.
وقال سعيد بن جُبير عن ابن عباس: {مُسْتَقرَّهَا} في الرّحِم، {وَمُسْتَودَعَهَا} في الصلب.
وقيل: {يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا} في الجنة أو في النار.
{وَمُسْتَوْدَعَهَا} في القبر؛ يدلّ عليه قوله تعالى في وصف أهل الجنة وأهل النار: {حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان: 76]: {سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان: 66].
{كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} أي في اللوح المحفوظ. اهـ.

.قال الخازن:

قوله سبحانه وتعالى: {وما من دابة في الأرض}
الدابة اسم لكل حيوان دب على وجه الأرض وأطلق لفظ الدابة على كل ذي أربع من الحيوان على سبيل العرف والمراد منه الإطلاق فيدخل الآدمي وغيره من جميع الحيوانات: {إلا على الله رزقها} يعني هو المتكفل برزقها فضلًا منه لا على سبيل الوجوب فهو إلى مشيئته إن شاء رزق وإن شاء لم يرزق وقيل إن لفظة على بمعنى أي من الله رزقها وقال مجاهد ما جاءها من رزق فمن الله وربما لم يرزقها فتموت جوعًا: {ويعلم مستقرها ومستودعها} قال ابن عباس: مستقرها المكان الذي تأوي في ليل أو نهار ومستودعها المكان الذي تدفن فيه بعد الموت، وقال ابن مسعود: مستقرها أرحام الأمهات والمستودع المكان الذي تموت فيه وقيل المستقر الجنة أو النار والمستودع القبر: {كل في كتاب مبين} أي كل ذلك مثبت في اللوح المحفوظ قبل خلقها. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}
الدابة هنا عام في كل حيوان يحتاج إلى رزق، وعلى الله ظاهر في الوجوب، وإنما هو تفضل، ولكنه لما ضمن تعالى أن يتفضل به عليهم أبرزه في حيز الوجوب.
قال ابن عباس: مستقرها حيث تأوى إليه من الأرض، ومستودعها الموضع الذي تموت فيه فتدفن.
وعنه أيضًا: مستقرها في الرحم، ومستودعها في الصلب.
وقال الربيع بن أنس: مستقرها في أيام حياتها، ومستودعها حين تموت وحين تبعث.
وقيل: مستقرها في الجنة أو في النار، ومستودعها في القبر، ويدل عليه: {حسنت مستقرًّا}، {وساءت مستقرًا} وقيل: ما يستقر عليه عملها، ومستودعها ما تصير إليه.
وقيل: المستقر ما حصل موجودًا من الحيوان، والمستودع ما سيوجد بعد المستقر.
وقال الزمخشري: المستقر مكانه من الأرض ومسكنه، والمستودع حيث كان موجودًا قبل الاستقرار من صلب أو رحم أو بيضة انتهى.
ومستقر ومستودع يحتمل أن يكونا مصدرين، ويحتمل أن يكونا اسمي مكان، ويحتمل مستودع أن يكون اسم مفعول لتعدّي الفعل منه، ولا يحتمله مستقر للزوم فعله كل أي: كل من الرزق والمستقر والمستودع في اللوح يعني: وذكرها مكتوب فيه مبين.
وقيل: الكتاب هنا مجاز، وهو إشارة إلى علم الله، وحمله على الظاهر أولى. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا} غذاؤُها اللائقُ بها من حيث الخلقُ ومن حيث الإيصالُ إليها بطريق طبيعيَ أو إراديَ لتكفّله إياه تفضلًا ورحمةً، وإنما جيء به على طريق الوجوبِ اعتبارًا لسبق الوعدِ وتحقيقًا لوصوله إليها البتة، وحملًا للمكلّفين على الثقة به تعالى والإعراضِ عن إتعاب النفس في طلبه: {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا} محلَّ قرارِها في الأصلاب: {وَمُسْتَوْدَعَهَا} موضعَها في الأرحام وما يجري مجراها من البيض ونحوِها، وإنما خُصَّ كلٌّ من الاسمين بما خُصَّ به من المحلَّين لأن النطفةَ بالنسبة إلى الأصلاب في حيزها الطبيعيِّ ومنشئِها الخلقيِّ، وأما بالنسبة إلى الأرحام وما يجري مجراها فهي مُودعةٌ فيها إلى وقت معين، أو مسكنَها من الأرض حين وُجدت بالفعل ومُودَعها من الموادّ والمقارِّ حين كانت بعدُ بالقوة، ولعل تقديمَ محلِّها باعتبار حالتِها الأخيرةِ لرعاية المناسبةِ بينها وبين عنوانِ كونِها دابةً في الأرض والمعنى ما من دابة في الأرض إلا يرزُقها الله تعالى حيث كانت من أماكنها يسوقُه إليها ويعلم موادَّها المتخالفةَ المتدرِّجة في مراتب الاستعداداتِ المتفاوتةِ المتطورةِ في الأطوارِ المتباينة ومقارَّها المتنوعةَ ويُفيض عليها في كل مرتبةٍ ما يليق بها من مبادي وجودِها وكمالاتِها المتفرِّعةِ عليه، وقد فُسر المستودَعُ بأماكنها في الممات، ولا يلائمه مقامُ التكفّل بأرزاقها: {كُلٌّ} من الدواب ورزقِها ومستقرِّها ومستودعِها: {فِى كتاب مُّبِينٍ} أي مُثْبتٍ في اللوح المحفوظِ البيِّن لمن ينظر فيه من الملائكة عليهم السلام أو المُظهِرِ لما أُثبت فيه للناظرين. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا} الدابة اسم لكل حيوان ذي روح ذكرًا كان أو أنثى عاقلًا أو غيره، مأخوذ من الدبيب وهو في الأصل المشي الخفيف ومنه قوله:
زعمتني شيخًا ولست بشيخ ** إنما الشيخ من يدب دبيبًا

واختصت في العرف بذوات القوائم الأربع وقد تخص بالفرس، والمراد بها هنا المعنى اللغوي باتفاق المفسرين أي وما من حيوان يدب على الأرض إلا على الله تعالى غذاؤه ومعاشه، والمراد أن ذلك كالواجب عليه تعالى إذ لا وجوب عليه سبحانه عند أهل الحق كما بين في الكلام، فكلمة: {على} المستعملة للوجوب مستعارة استعارة تبعية لما يشبهه ويكون من المجاز بمرتبتين، وذكر الإمام أن الرزق واجب بحسب الوعد والفضل والإحسان على معنى أنه باق على تفضله لكن لما وعده سبحانه وهو جل شأنه لا يخل بما وعد صوره بصورة الوجوب لفائدتين: التحقيق لوصوله. وحمل العباد على التوكل فيه، ولا يمنع من التوكل مباشرة الأسباب مع العلم بأنه سبحانه المسبب لها ففي الخبر: «اعقل وتوكل» وجاء «لن تموت نفس حتى تستمل رزقها وأجلها فاتقوا الله تعالى وأجملوا في الطلب» ولا ينبغي أن يعتقد أنه لا يحصل الرزق بدون مباشرة سبب فإنه سبحانه يرزق الكثير من دون مباشرة سبب أصلًا، وفي بعض الآثار إن موسى عليه السلام عند نزول الوحي تعلق قلبه بأحوال أهله فأمره الله تعالى بأن يضرب بعصاه صخرة فضرب فانشقت الصخرة وخرجت صخرة ثانية فضربها فخرجت ثالثة فضربها فانشقت عن دودة كالذرة وفي فمها شيء يجري مجرى الغذاء لها وسمعها تقول: سبحان من يراني ويسمع كلامي ويعرف مكاني ويذكرني ولا ينساني وما أحسن قول ابن أذينة:
لقد علمت وما الإشراف من خلقي ** إن الذي هو رزقي سوف يأتيني

أسعى إليه فيعييني تطلبه ** ولو أقمت أتان لا يعنيني

وقد صدقه الله تعالى في ذلك يوم وفد على هشام فقرعه بقوله هذا فرجع إلى المدينة فندم هشام على ذلك وأرسل بجازئته إليه، ويقرب من قصته قصة الثقفي مع عبيد الله بن عامر خال عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه وهي مشهورة حكاها ابن أبي الدنيا ونقلها غير واحد، وقد ألغي أمر الأسباب جدًا من قال:
مثل الرزق الذي تطلبه ** مثل الظل الذي يمشي معك

أنت لا تدركه متبعا ** وإذا وليت عنه تبعك

وبالجملة ينبغي الوثوق بالله تعالى وربط القلب به سبحانه فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن: {واحتج أهل السنة} بالآية على أن الحرام رزق وإلا فمن لم يأكل طول عمره إلا من الحرام يلزم أن لا يكون مرزوقًا، وأجيب بأن هذا مجرد فرض إذ لا أقل من التغذي بلبن الأم مثلًا وهو حلال على أن المراد أن كل حيوان يحتاج إلى الرزق إذا رزق فإنما رزقه من الله تعالى وهو لا ينافي أن يكون هناك من لا رزق له كالمتغذي بالحرام، وكذا من لم يرزق أصلًا حتى مات جوعًا، وروي هذا عن مجاهد وقد تقدم الكلام في ذلك.
{عَلَى الله رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا} موضع قرارها في الأصلاب: {وَمُسْتَوْدَعَهَا} موضعها في الأرحام وما يجري مجراها من البيض ونحوه، فالمستقر والمستودع اسما مكان، وجوز فيهما أن يكونا مصدرين وأن يكون المستودع اسم مفعول لتعدي فعله، ولا يجوز في المستقر ذلك لأن فعله لازم، والأول هو الظاهر، وإنما خص كل من الاسمين بما خص به من المحل كما قال بعض الفضلاء لأن النطفة مثلًا بالنسبة إلى الأصلاب في حيزها الطبيعي ومنشئها الخلقي، وأما بالنسبة إلى الأرحام مثلًا فهي مودعة فيها إلى وقت معين، وعن عطاء تفسير المستقر بالأرحام والمستودع بالأصلاب وكأنه أخذ تفسير الأول بذلك من قوله سبحانه: {وَنُقِرُّ في الارحام مَا نَشَاء}، وجوز أن يكون المراد بالمستقر مساكنها من الأرض حيث وجدت بالفعل، وبالمستودع محلها من المواد والمقار حين كانت بعد بالقوة، وهذا عام لجميع الحيوانات بخلاف الأول إذ من الحيوانات ما لم يستقر في صلب كالمتكون من عفونة الأرض مثلًا، ولعل تقديم محلها باعتبار حالتها الأخيرة لرعاية المناسبة بينها وبين عنوان كونها دابة في الأرض، والمعنى على ما قيل: ما من دابة في الأرض إلا يرزقها الله تعالى حيث كانت من أماكنها يسوقه إليها ويعلم موادها المختلفة المندرجة في مراتب الاستعدادات المتفاوتة المتطورة في الأطوار المتباينة ومقارها المتنوعة يفيض عليها في كل مرتبة ما يليق بها من مبادئ وجودها وكمالاتها المتفرعة عليها، ولا يخلو عن حسن إلا أن فيه بعدًا، وأخرج عبد الرزاق وجماعة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن مستقرها حيث تأوي ومستودعها حيث تموت، وتعقب بأن تفسير المستودع بذلك لا يلائم مقام التكفل بأرزاقها، وقد يقال: لعل ذلك إشارة إلى نهاية أمد ذلك التكفل، وفي خبر ابن مسعود رضي الله تعالى عنه إشارة إلى ما هو كالمبدأ له أيضًا، فقد أخرج عنه ابن جرير والحاكم وصححه أنه قال: مستقرها الأرحام، ومستودعها حيث تموت، فكأنه قيل: إنه سبحانه متكفل برزق كل دابة ويعلم مكانها أول ما تحتاج إلى الرزق ومكانها آخر ما تحتاج إليه فهو سبحانه يسوقه إليها ولابد إلى أن ينتهي أمد احتياجها، وجوز في هذه الجملة أن تكون استئنافًا بيانيًا وأن تكون معطوفة على جملة: {عَلَى الله رِزْقُهَا} داخلة في حيز: {إِلا} وعليه اقتصر الأجهوري.
{كُلٌّ في كتاب مُّبِينٍ} أي كل واحد من الدواب ورزقها ومستقرها ومستودعها، أو كل ما ذكر وغيره مثبت في اللوح المحفوظ البين لمن ينظر فيه من الملائكة عليهم السلام، أو المظهر لما أثبت فيه للناظرين، والجملة على ما قال الطيبي كالتتميم لمعنى وجوب تكفل الرزق كمن أقر بشيء في ذمته ثم كتب عليه صكًا، وفي الكشف إن الأظهر أنها تحقيق للعلم وكأنه تعالى لما ذكر أنه يعلم ما يسرون وما يعلنون أردفه بما يدل على عموم علمه. اهـ.